فصل: تفسير الآيات رقم (52- 68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


الجزء السابع

سورة الشعراء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ‏(‏5‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏6‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏12‏)‏ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏14‏)‏ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من‏:‏ ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏ إلى آخر السورة، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أول لم يكن لهم آية‏}‏، الآية مدنية‏.‏ ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً‏}‏ ذكر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كونهم لم يؤمنوا، وكونهم كذبوا بالحق، لما جاءهم‏.‏ ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يكون لزاماً‏}‏ أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم ‏{‏أنباء ما كانوا به يستهزءون‏}‏‏.‏ وتلك إشارة إلى آيات السورة، أو آيات القرآن‏.‏ وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي، وأبو بكر وباقي السبعة‏:‏ بالفتح؛ وحمزة بإظهار نون سين، وباقي السبعة بإدغامها؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع‏.‏ وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع، وهي قراءة أبي جعفر‏.‏ وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي، فتركت نقله، إذ لا دليل على شيء مما قالوه‏.‏

‏{‏والكتاب المبين‏}‏‏:‏ هو القرآن، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه، أو مبين إعجازه وصحة أنه من عند الله‏.‏ وتقدم تفسير ‏{‏باخع نفسك‏}‏ في أول الكهف‏.‏ ‏{‏ألا يكونوا‏}‏‏:‏ أي لئلا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا‏.‏ وقرأ قتادة وزيد بن علي‏:‏ باخع نفسك على الإضافة‏.‏ ‏{‏إن نشأ ننزل‏}‏، دخلت إن على نشأ وإن للممكن، أو المحقق المنبهم زمانه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر، ليهتدي من سبق في علمه هداه، ويضل من سبق ضلاله، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إن لو كانت‏.‏ انتهى‏.‏ ومعنى آية‏:‏ أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه‏:‏ إن يشأ ينزل على الغيبة، أي إن يشأ الله ينزل، وفي بعض المصاحف‏:‏ لو شئنا لأنزلنا‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فظلت، ماضياً بمعنى المستقبل، لأنه معطوف على ينزل‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ فتظلل، وأعناقهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق‏؟‏ قلت‏:‏ أصل الكلام‏:‏ فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع، وترك الكلام على أصله كقولهم‏:‏ ذهبت أهل اليمامة، كان الأهل غير مذكور‏.‏ انتهى‏.‏ وقال مجاهد، وابن زيد، والأخفش‏:‏ جماعاتهم، يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس، أي جماعة، ومنه قول الشاعر‏:‏

إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا *** وقيل‏:‏ أعناق الناس‏:‏ رؤساؤهم، ومقدموهم شبهوا بالأعناق، كما قيل‏:‏

لهم الرؤوس والنواصي والصدور *** قال الشاعر‏:‏

في مجفل من نواصي الخيل مشهود *** وقيل‏:‏ أريد الجارحة‏.‏ فقال ابن عبسى‏:‏ هو على حذف مضاف، أي أصحاب الأعناق‏.‏ وروعي هذا المحذوف في قوله‏:‏ ‏{‏خاضعين‏}‏، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل، أولاً حذف، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه، فأخبر عنه إخباره، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو‏:‏

كما شرقت صدر القناة من الدم *** أولاً حذف، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع، جمعت جمعه كما جاء‏:‏ ‏{‏أتينا طائعين‏}‏ وقرأ عيسى، وابن أبي عبلة‏:‏ خاضعة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية، ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل أعناقهم بعد معاوية، ويلحقهم هوان بعد عز‏.‏ ‏{‏وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث‏}‏‏.‏ تقدم تفسيره في الأنبياء‏.‏ ‏{‏إلا كانوا‏}‏‏:‏ جملة حالية، أي إلا يكونوا عنها‏.‏ وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهو الإعراض‏؟‏ قلت‏:‏ كان قبل حين أعرضوا عن الذكر، فقد كذبوا به، وحين كذبوا به، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية، لأن من كان قابلاً للحق مقبلاً عليه، كان مصدقاً به لا محالة، ولم يظن به التكذيب‏.‏ ومن كان مصدقاً به، كان موقراً له‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏فسيأتيهم‏}‏‏:‏ وعيد بعذاب الدنيا، كيوم بدر، وعذاب الآخرة‏.‏ ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، نبه تعالى على قدرته، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادة بقوله‏:‏ ‏{‏أو لم يروا إلى الأرض‏}‏‏؟‏ والزوج‏:‏ النوع‏.‏ وقيل‏:‏ الشيء وشكله‏.‏ وقيل‏:‏ أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الزوج‏:‏ اللون‏.‏ والكريم‏:‏ الحسن، قاله مجاهد وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ ما يأكله الناس والبهائم‏.‏ وقيل‏:‏ الكثير المنفعة‏.‏ وقيل‏:‏ الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد‏.‏ وجه كريم‏:‏ مرضي في حسنه وجماله؛ وكتاب كريم‏:‏ مرضي في معانيه وفوائده‏.‏ وقال‏:‏ حتى يشق الصفوف من كرمه، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور، والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ قال الشعبي‏:‏ الناس من نبات الأرض، فمن صار إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فبضد ذلك‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى الجمع بين كم وكل‏؟‏ ولو قيل‏:‏ ‏{‏أنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏ قلت‏:‏ دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة‏؟‏ فهذا معنى الجمع، وبه نبه على كمال قدرته‏.‏ انتهى‏.‏ وأفرد ‏{‏لآية‏}‏، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج، وهو كم، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج، لأن المشار إليه واحد، وهو الإنبات، وإن اختلفت متعلقاته، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية‏.‏

‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏‏:‏ تسجيل على أكثرهم بالكفر‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏‏:‏ أي الغالب القاهر‏.‏ ولما كان الموضع موضع بيان القدرة، قدم صفة العزة على صفة الرحمة‏.‏ فالرحمة إذا كانت عن قدرة، كانت أعظم وقعاً، والمعنى‏:‏ أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة‏.‏ ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه، ذكر قصة موسى عليه السلام، وما قاسى مع فرعون وقومه، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش‏.‏ إذ، كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلهاً، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، بدأ بقصة موسى، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص‏.‏ والعامل في إذ، قال الزجاج، اتل مضمرة، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى، ودليل ذلك ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏}‏ إذ‏.‏ وقيل‏:‏ العامل اذكر، وهو مثل واتل، ومعنى نادى‏:‏ دعا‏.‏ وقيل‏:‏ أمر‏.‏ وأن‏:‏ يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون تفسيرية، وسجل عليهم بالظلم، لظلم أنفسهم بالكفر، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد، وذبح الأولاد، و‏{‏قوم فرعون‏}‏، وقيل‏:‏ بدل من ‏{‏القوم الظالمين‏}‏، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، وسوغه مستقل بالإسناد‏.‏ ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك، أتى عطف البيان بإزالته، إذ هو أشهر‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ألا يتقون، بالياء على الغيبة‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وشقيق بن سلمة، وحماد بن سلمة، وأبو قلابة‏:‏ بتاء الخطاب، على طريقة الالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم، وإن لم يكونوا حاضرين، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ معناه قل لهم، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ بم تعلق قوله‏:‏ ‏{‏ألا يتقون‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله‏.‏ ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين، وقد أعرب هو ‏{‏قوم فرعون‏}‏ عطف بيان، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما، لأن قوم فرعون معمول لقوله‏:‏ ‏{‏ائت‏}‏ والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله‏:‏ قوم فرعون‏.‏

لم يجز أن تكون الجملة حالاً، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها‏.‏ وقولك‏:‏ جئت أمسرعاً‏؟‏ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز، فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز‏.‏ وقرئ‏:‏ بفتح النون وكسرها، التقدير‏:‏ أفلا يتقونني‏؟‏ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى‏:‏ ألا يا ناس اتقون، كقوله‏:‏ ‏{‏ألا يسجدوا‏}‏ انتهى‏.‏ يعني‏:‏ وحذف ألف ياخطاً ونطقاً لالتقاء الساكنين، وهذا تخريج بعيد‏.‏ والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري‏:‏ إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار‏.‏

ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلهية، كثير المهابة، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصاً من كان من بني إسرائيل، قال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني أخاف أن يكذبون‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ويضيق‏}‏ ‏{‏ولا ينطلق‏}‏، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف‏.‏ فالمعنى‏:‏ إنه يفيد ثلاث علل‏:‏ خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان‏.‏ وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن عليّ، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب‏:‏ بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف‏.‏ وحكى أبو عمرو الداني، عن الأعرج‏:‏ أنه قرأ بنصب‏:‏ ويضيق، ورفع‏:‏ ولا ينطلق، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان‏.‏

‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏‏:‏ معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومعنى ‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏‏:‏ أرسل إليه جبريل عليه السلام، واجعله نبياً، وأزرني به، واشدد به عضدي؛ وهذا كلام مختصر، وقد أحسن في الاختصار حيث قال‏:‏ ‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني أخاف‏}‏ إلى آخره، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين، ليس توقفاً فيما أمره الله تعالى به، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى، وتبليغ رسالته، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب‏.‏ وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل، ومفعول أرسل محذوف‏.‏ فقيل جبريل، كما تقدم ذكره، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً بالشام‏.‏ قال السدي‏:‏ سار بأهله إلى مصر، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال‏:‏ أنا موسى، فتعارفا؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفها عليهما، فذهبا إليه‏.‏

‏{‏ولهم عليّ ذنب‏}‏‏:‏ أي قبلي قود ذنب، أو عقوبة، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها، أو سمى تبعة الذنب ذنباً، كما سمى جزاء السيئة سيئة‏.‏ وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة، بل قال ذلك استدفاعاً لما يتوقعه منهم من القتل، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏، وهي كلمة الردع، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع‏.‏ وكلا رد لقوله‏:‏ ‏{‏إني أخاف‏}‏، أي لا تخف ذلك، فإني قضيت بنصرك وظهورك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاذهبا‏}‏، أمر لهما بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكنه قال لموسى‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وأخوك‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله‏:‏ ‏{‏كلا فاذهبا‏}‏، لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس المؤازرة بأخيه، فأجابه بقوله‏:‏ اذهب، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون‏.‏ فإن قلت‏:‏ علام عطف قوله اذهبا‏؟‏ قلت‏:‏ على الفعل الذي يدل عليه كلا، كأنه قيل‏:‏ ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهارون بآياتنا، يعم جميع ما بعثهما الله به، وأعظم ذلك العصا، وبها وقع العجز‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً‏.‏ انتهى‏.‏ ومعكم، قيل‏:‏ من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما‏.‏ وقيل‏:‏ هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه‏.‏ وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال‏:‏ لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال الله معه‏.‏ وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ‏{‏مستمعون‏}‏ اهتبالاً، ليس في صيغة سامعون، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏معكم مستمعون‏}‏ من مجاز الكلام، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه‏.‏ انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون، وأن يكون خبراً، ومستمعون خبر ثان‏.‏ والمعية هنا مجاز، وكذلك الاستماع، لأنه بمعنى الإصغاء، ولا يلزم من الاستماع السماع، تقول‏:‏ أسمع إليه، فما سمع واستمع إليه، فسمع كما قال‏:‏ ‏{‏استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا‏}‏ وأفرد رسول هنا ولم يثن، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إنا رسولا ربك‏}‏ إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة، فجاز أن يقع مفرداً خبر المفرد فما فوقه، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة، فكأنهما رسول واحد‏.‏ وأريد بقوله‏:‏ أنا أو كل واحد منا رسول‏.‏

‏{‏ورسول رب العالمين‏}‏ فيه رد عليه، وأنه مربوب لله تعالى، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية، ولذلك أنكر فقال‏:‏ وما رب العالمين والمعنى إليك، ‏{‏وأن أرسل‏}‏‏:‏ يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول، وأن تكون مصدرية، وأرسل بمعنى أطلق وسرح، كما تقول‏:‏ أرسلت الحجر من يدي، وأرسلت الصقر‏.‏ وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين‏:‏ إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين، وكانت مسكن موسى وهارون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 33‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ‏(‏18‏)‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏20‏)‏ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏21‏)‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب‏:‏ إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له‏:‏ ائذن له لعلنا نضحك منه‏.‏ فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له‏:‏ ‏{‏ألم نر بك فينا وليداً‏}‏ وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره‏:‏ فأتيا فرعون، فقالا له ذلك‏.‏ ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية‏.‏ والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية‏:‏ من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي‏:‏ بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل‏.‏ عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وفعلت فعلتك التي فعلت‏}‏، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن‏.‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏‏:‏ يجوز أن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون‏.‏ ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي‏.‏

‏{‏قال فعلتها إذاً‏}‏‏:‏ إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ‏.‏ انتهى‏.‏ وليس بصلة، بل هي حرف معنى‏.‏ وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ إذاً جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء‏؟‏ قلت‏:‏ قول فرعون‏:‏ ‏{‏وفعلت فعلتك‏}‏ فيه معنى‏:‏ إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى‏:‏ نعم فعلتها، مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء‏.‏ فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء‏.‏

وحملوا قوله‏:‏ ‏{‏فعلتها إذاً‏}‏ من المواضع التي جاءت فيها جواباً لآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين‏.‏

‏{‏وأنا من الضالين‏}‏، قال ابن زيد‏:‏ معناه من الجاهلين، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من الناسين، ونزع لقوله‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما‏}‏ وفي قراءة عبد الله، وابن عباس‏:‏ وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏{‏إذ أنتم جاهلون‏}‏ أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ‏.‏ ومن غريب ما شرح به أن معنى ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله‏.‏ قيل‏:‏ والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ أي في محبتك القديمة‏.‏ وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في‏:‏ تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل ‏{‏أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون‏}‏، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي‏.‏ وقرأ حمزة في رواية‏:‏ لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ حكماً بضم الكاف؛ والجمهور‏:‏ بالإسكان‏.‏ والحكم‏:‏ النبوة‏.‏ ‏{‏وجعلني من المرسلين‏}‏‏:‏ درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم‏:‏ العلم والفهم‏.‏

‏{‏وتلك نعمة تمنها عليّ‏}‏‏:‏ وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏ألم نر بك فينا وليداً‏}‏؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نر بك‏}‏‏.‏ والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول‏:‏ وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي‏.‏ وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول‏:‏ أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم‏؟‏ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ وتلك نعمة ما لك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله‏.‏

والقول الأول فيه إنصاف واعتراف‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ والفراء‏:‏ قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، ورده النحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى‏:‏ ترى زيداً منطلقاً، بمعنى‏:‏ ألا ترى‏؟‏ وكان الأخفش الأصغر يقول‏:‏ أخذه من ألفاظ العامة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى‏:‏ لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به‏.‏ وقيل‏:‏ اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت‏.‏ وتعبيدهم‏:‏ تذليلهم واتخاذهم عبيداً، يقال‏:‏ عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبداً، قال الشاعر‏:‏

علام يعبدني قومي وقد كثرت *** فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

فإن قلت‏:‏ وتلك إشارة إلى ماذا‏؟‏ وأن عبدت ما محلها من الإعراب‏؟‏ قلت‏:‏ تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ والمعنى‏:‏ تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏أن عبدت بني إسرائيل‏}‏ في موضع نصب مفعول من أجله‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول‏:‏ ‏{‏وما رب العالمين‏}‏‏؟‏ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي‏.‏ فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله‏:‏ ‏{‏رسول رب العالمين‏}‏ دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده‏.‏ والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالماً بالله‏.‏ ويدل عليه‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر‏}‏ ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء‏.‏ قال مكي‏:‏ كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن‏.‏ انتهى‏.‏ والموضع الآخر قوله‏:‏ ‏{‏فمن ربكما يا موسى‏}‏ ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق‏.‏ والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم‏؟‏ وأنه محل للحوادث‏؟‏ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر‏؟‏ وأنه لم يكن ملك الأرض‏؟‏ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام‏؟‏ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره‏؟‏ وجاء قوله‏:‏ ‏{‏وما بينهما‏}‏ على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين‏:‏ جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله‏:‏

بين رماحي مالك ونهشل *** اعتباراً للجنسين‏:‏ وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال‏:‏ كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة‏.‏ وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء‏}‏ الآية‏.‏ ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ كان على مذهب الحلولية القائلين‏:‏ بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً‏.‏ انتهى‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏إن كنتم موقنين‏}‏‏:‏ إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله‏.‏ وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد‏.‏

‏{‏قال لمن حوله‏}‏‏:‏ هم أشراف قومه‏.‏ قيل‏:‏ كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة‏.‏ ‏{‏ألا تستمعون‏}‏‏:‏ أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية‏.‏

انتهى‏.‏ يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكاً بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها‏:‏ فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم‏.‏ ‏{‏قال ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏‏:‏ نبههم على منشئهم ومنشئ آبائهم، وجاء في قوله‏:‏ الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم‏.‏ وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم‏.‏

‏{‏قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏}‏‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون‏:‏ ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة‏.‏ والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏‏:‏ فعدل إلى طريق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق‏:‏ طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب‏:‏ غروب الشمس وزوال النهار‏.‏

وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله‏:‏ ‏{‏ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏، فأجابه نمروذ بقوله‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر‏}‏ وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله‏:‏ ‏{‏رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏‏:‏ أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية‏.‏ وقرأ مجاهد، وحميد، والأعرج‏:‏ أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم‏.‏ وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش‏:‏ رب المشارق والمغارب، على الجمع فيهما‏.‏ ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه‏:‏ ‏{‏قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين‏}‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلث احتد واحتدم، وقال‏:‏ ‏{‏لئن اتخذت إلهاً غيري‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف قال‏:‏ أولاً‏:‏ ‏{‏إن كنتم موقنين‏}‏، وآخراً‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ لأين أولاً، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏‏.‏ فإن قلت‏:‏ ألم يكن لأسجننك أخصر من ‏{‏لأجعلنك من المسجونين‏}‏ ومؤدّياً مؤدّاه‏؟‏ قلت‏:‏ أما أخصر فنعم، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا، لأن معناه‏:‏ لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني‏.‏ وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل‏.‏ انتهى‏.‏ ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه‏:‏ ‏{‏أو لو جئتك بشيء مبين‏}‏، أي يوضح لك صدقي، أفكنت تسجنني‏؟‏ قال الزمخشري‏:‏ أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه‏:‏ أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين‏؟‏ انتهى‏.‏ وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏}‏ فأغنى عن إعادته‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى‏:‏ أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها‏؟‏‏.‏

ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له‏:‏ ‏{‏فأت به إن كنت من الصادقين‏}‏، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب‏.‏ ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات‏.‏ انتهى‏.‏ وتقديره‏:‏ إن كنت من الصادقين فأت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه‏.‏ وقدره الزمخشري‏:‏ إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به‏.‏ جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم‏:‏ أنت ظالم إن فعلت، تقديره‏:‏ أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً‏.‏ ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به‏.‏

وقول الزمخشري‏:‏ حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها‏.‏ والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي، أو على سبيل الإرهاص لنبي‏.‏

‏{‏فألقى عصاه‏}‏‏:‏ رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام‏.‏ والثعبان‏:‏ أعظم ما يكون من الحيات‏.‏ ومعنى ‏{‏مبين‏}‏‏:‏ ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر‏.‏ ‏{‏ونزع يده‏}‏ من جيبه، ‏{‏فإذا هي‏}‏ تلألأ كأنها قطعة من الشمس‏.‏ ومعنى ‏{‏للناظرين‏}‏‏:‏ أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضاً نورانياً‏.‏ روي أنه لما أبصر أمر العصا قال‏:‏ فهل غيرها‏؟‏ فأخرج يده، فقال‏:‏ ما هذه‏؟‏ قال‏:‏ يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 51‏]‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قال ابن عطية‏:‏ وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله، فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال‏:‏ لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر، نحو‏:‏ مررت بهند ضاحكة‏.‏ والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً، فكأنه قيل‏:‏ قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقع صلة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما العامل في حوله‏؟‏ قلت‏:‏ هو منصوب نصبين‏:‏ نصب في اللفظ، ونصب في المحل‏.‏ فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهو النصب على الحال‏.‏ انتهى‏.‏ وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية‏.‏

ولما رأى فرعون أمر العصا واليد، وما ظهر فيهما من الآيات، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر‏.‏ وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه، أو كان علم صحة المعجزة‏.‏ وعمى تلك الحجة على قومه، برميه بالسحر، وبأنه ‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره‏}‏، ليقوي تنفيرهم عنه، وابتغاؤهم الغوائل له، وأن لا يقبلوا قوله؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه، ثم استأمرهم فيما يفعل معه، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً‏.‏ وتقدم الكلام في ‏{‏ماذا تأمرون‏}‏ وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته‏.‏ ولما قال‏:‏ ‏{‏إن هذا لساحر عليم‏}‏، عارضوا بقوله‏:‏ ‏{‏بكل سحار‏}‏، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب‏.‏ وقرأ الأعمش، وعاصم في رواية‏:‏ بكل ساحر‏.‏ واليوم المعلوم‏:‏ يوم الزينة، وتقدم الكلام عليه في سورة طه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هل أنتم مجتمعون‏}‏، استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم، كما يقول الرجل لغلامه‏:‏ هل أنت منطلق‏؟‏ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً‏:‏

هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا *** أو عند رب أخا عون بن مخراق

يريد‏:‏ ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطئ به‏.‏ وترجوا اتباع السحرة، أي في دينهم، إن غلبوا موسى عليه السلام، ولا يتبعون موسى في دينه‏.‏ وساقوا الكلام سياق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام‏.‏ ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها، وهي جواب وجزاء‏.‏ ‏{‏وبعزة فرعون‏}‏‏:‏ الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً، كما يقال للملوك‏:‏ أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية‏.‏

وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ بعد أن ذكر أنه قسم قال‏:‏ والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء‏:‏ بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا‏.‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏قال لهم موسى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لمن المقربين‏}‏، كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به‏؟‏ قلت‏:‏ هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلاً، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا القول الآخر ليس بشيء‏.‏ لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير‏:‏ بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين‏.‏ انتهى‏.‏ كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون الوصل مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ لا ضير‏}‏‏:‏ أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه‏.‏ يقال‏:‏ ضاره يضيره ضيراً، وضاره يضوره ضوراً‏.‏ ‏{‏إنا إلى ربنا‏}‏‏:‏ أي إلى عظيم ثوابه، أو‏:‏ لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله‏:‏ ‏{‏آمنتم له قبل أن آذن لكم‏}‏ موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل‏.‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إنه لكبيركم‏}‏، صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله‏:‏ ‏{‏فلسوف تعلمون‏}‏، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربك منقلبون‏}‏، نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته‏.‏

انتهى ملخصاً‏.‏ ويدفع هذا الأخير قولهم‏:‏ ‏{‏إنا نطمع‏}‏ إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا‏.‏ والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله‏:‏ ‏{‏ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين‏}‏ وقيل‏:‏ يحتمل اليقين‏.‏ قيل‏:‏ كقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏والذي أطمع‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن كنا‏}‏، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم‏.‏ وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ‏:‏ إن كنا، بكسر الهمزة‏.‏ قال صاحب اللوامح على الشرط‏:‏ وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره‏:‏ ‏{‏إن كنا أول المؤمنين‏}‏ فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين‏.‏ ونظيره قول العامل لمن يؤخر‏.‏ جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي‏}‏ مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك‏.‏ وقال ابن عطية بمعنى‏:‏ أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط‏.‏ انتهى‏.‏ ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير‏:‏ إن كنا لأول المؤمنين‏.‏ وجاء في الحديث‏:‏ «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل»، أي ليحب‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ونحن أباة الضيم من آل مالك *** وإن مالك كانت كرام المعادن

أي‏:‏ وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 68‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

تقدم الخلاف في ‏{‏أسر‏}‏، وأنه قرئ بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود‏.‏ وقرأ اليماني‏:‏ أن سر، أمر من سار يسير‏.‏ أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون‏.‏ فخرج سحراً، جاعلاً طريق الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فيقال له في ترك الطريق، فيقول‏:‏ هكذا أمرت‏.‏ فلما أصبح، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل، فخرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر‏.‏ وذكروا أعداداً في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل، الله أعلم بصحة ذلك‏.‏ ‏{‏إن هؤلاء لشرذمة‏}‏‏:‏ أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً، جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، والظاهر تقليل العدد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يريد بالقلة‏:‏ الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد، والمعنى‏:‏ أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه‏.‏ انتهى‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وقرأ من لا يؤخذ عنه‏:‏ ‏{‏لشرذمة قليلون‏}‏، وليست هذه موقوفة‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لغائظون‏}‏‏:‏ أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها، وخرجوا هاربين‏.‏ وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وزيد بن علي‏:‏ ‏{‏حاذرون‏}‏، بالألف، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره، وحذر متعد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر الآخرة‏}‏ وقال العباس بن مرداس‏:‏

وإني حاذر أنمي سلاحي *** إلى أوصال ذيال صنيع

وقرأ باقي السبعة‏:‏ بغير ألف وهو المتيقظ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مؤدون، أي ذوو أدوات وسلاح، أي متسلحين‏.‏ وقيل‏:‏ حذرون في الحال، وحاذرون في المآل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الحاذر‏:‏ الخائف ما يرى، والحذر‏:‏ المخلوق حذراً‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد‏.‏ وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة، وأنه يعمل كما يعمل حاذر، فينصب المفعول به، وأنشد‏:‏

حذر أموراً لا تضير وآمن *** ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو‏.‏ وعن الفراء أيضاً، والكسائي‏:‏ رجل حذر، إذا كان الحذر في خلقته، فهو متيقظ منتبه‏.‏ وقرأ سميط بن عجلان، وابن أبي عمار، وابن السميفع‏:‏ حاذرون، بالدال المهملة من قولهم‏:‏ عين حدرة، أي عظيمة، والحادر‏:‏ المتورم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة‏.‏ وقال ابن خالوية‏:‏ الحادر‏:‏ السمين القوي الشديد، يقال غلام حدر بدر‏.‏

وقال صاحب اللوامح‏:‏ حدر الرجل‏:‏ قوي بأسه، يقال‏:‏ منه رجل حدر بدر، إذا كان شديد البأس في الحرب، ويقال‏:‏ رجل حدر، بضم الدال للمبالغة، مثل يقظ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أحب الصبي السوء من أجل أمّة *** وأبغضه من بغضها وهو حادر

أي سمين قوي‏.‏ وقيل‏:‏ مدجّجون في السلام‏.‏ ‏{‏فأخرجناهم‏}‏‏:‏ الضمير عائد على القبط‏.‏ ‏{‏من جنات وعيون‏}‏‏:‏ بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد، قاله ابن عمر وغيره، والجمهور‏:‏ على أنها عيون الماء‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ المراد عيون الذهب‏.‏ ‏{‏وكنوز‏}‏‏:‏ هي الأموال التي خربوها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ سماها كنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الكنوز‏:‏ الأنهار‏.‏ قال صاحب التحبير‏:‏ وهذا فيه نظر، لأن العيون تشملهما‏.‏ وقيل‏:‏ هي كنوز المقطم ومطالبه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هي باقية إلى اليوم‏.‏ انتهى‏.‏

وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب‏.‏ فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت‏.‏ وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر، نحواً من خمسة وأربعين عاماً، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء‏.‏ يزعمون أن ثم آباراً، وأنه يكتب أسماء في شقفة، فتلقى في البئر، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً‏.‏ فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً، ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات، يركنون إليها ويقولون بها، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومقام كريم‏}‏‏.‏ قال ابن لهيعة‏:‏ هو الفيوم‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏:‏ هو المنابر للخطباء‏.‏ وقيل‏:‏ الأسرة في الكلل‏.‏ وقيل‏:‏ مجالس الأمراء والأشراف والحكام‏.‏ وقال النقاش‏:‏ المساكن الحسان‏.‏ وقيل‏:‏ مرابط الخيل، حكاه الماوردي‏.‏ وقرأ قتادة، والأعرج‏:‏ ومقام، بضم الميم من أقام كذلك‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏ النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك‏.‏ انتهى‏.‏ فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، ولا يشبه الشيء بنفسه‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وأورثناها بني إسرائيل‏}‏، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه، لأنه اعتقب قوله‏:‏ ‏{‏وأورثناها‏}‏‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وأخرجناهم‏}‏، وقاله الحسن؛ قال‏:‏ كما عبروا النهر، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم‏.‏ وقيل‏:‏ ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاتبعوهم‏}‏‏:‏ أي فلحقوهم‏.‏ وقرأ الحسن، والذماري‏:‏ فاتبعوهم، بوصل الألف وشد التاء‏.‏ ‏{‏مشرقين‏}‏‏:‏ داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقاً، إذا طلعت، كأصبح‏:‏ دخل في وقت الصباح، وأمسى‏:‏ دخل في وقت المساء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ فاتبعوهم نحو الشرق، كأنجد‏:‏ إذا قصد نحو نجد‏.‏ والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل‏.‏ وقيل‏:‏ مشرقين‏:‏ أي في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول‏.‏

‏{‏فلما تراءى الجمعان‏}‏‏:‏ أي رأى أحدهما الآخر، ‏{‏قال أصحاب موسى إنا لمدركون‏}‏‏:‏ أي ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ وابن وثاب‏:‏ تراي الجمعان، بغير همز، على مذهب التخفيف بين بين، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء، والثانية اللام المعتلة من الفعل‏.‏ فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة، وذلك مما لا يكون أبداً، قاله أبو الفضل الرازي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ حمزة‏:‏ تريء، بكسر الراء ويمد ثم يهمز؛ وروى مثله عن عاصم، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدود، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى، وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ وقراءة حمزة هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال‏:‏ وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، هو ابن الباذش، في كتاب الإقناع من تأليفه‏:‏ تراءى الجمعان في الشعراء‏.‏ إذا وقف عليها حمزة والكسائي، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة؛ ففي قراءته إمالة الإمالة‏.‏ وفي هذا الفعل، وفي راءى، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة، حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا‏:‏ صعقى في النسب إلى الصعق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لمدركون، بإسكان الدال؛ والأعرج، وعبيد بن عمير‏:‏ بفتح الدال مشددة وكسر الراء، على وزن مفتعلون، وهو لازم، بمعنى الفناء والاضمحلال‏.‏ يقال‏:‏ منه ادّرك الشيء بنفسه، إذا فني تتابعاً، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة، نص على كسرها أبو الفضل الرازي في ‏(‏كتاب اللوامح‏)‏، والزمخشري في ‏(‏كشافه‏)‏ وغيرهما‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً، فلو كانت القراءة من ذلك، لوجب فتح الراء، ولم يبلغني ذلك عنهما، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، ومنه بيت الحماسة‏:‏

أبعد بني أمي الذين تتابعوا *** أرجى الحياة أم من الموت أجزع

‏{‏قال كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏‏:‏ زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا، والمعنى‏:‏ لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه‏.‏ وقيل‏:‏ سيكفيني أمرهم‏.‏ ولما انتهى موسى إلى البحر، قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى‏:‏ أين أمرت، وهذا البحر أمامك وقد غشيتك آل فرعون‏؟‏ قال‏:‏ أمرت بالبحر، ولا يدري موسى ما يصنع‏.‏ ورويت هذه المقالة عن يوشع، قالها لموسى عليه السلام، فأوحى الله إليه ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر‏}‏، فخاض يوشع الماء‏.‏ وضرب موسى بعصاه، فصار فيه اثنا عشر طريقاً، لكل سبط طريق‏.‏ أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر‏.‏

‏{‏فانفلق‏}‏‏:‏ ثم محذوف تقديره‏:‏ فضرب فانفلق‏.‏ وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق‏.‏ والفاء في انفلق هي فاء ضرب، فأبقى من كل ما يدل على المحذوف، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق، ليدل على ضرب المحذوفة، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه‏.‏ وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام، ويحتاج إلى وحي بسفر عن هذا القول‏.‏ وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً كثيرة محذوفة، وفيها الفاء نحو قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلون، يوسف أيها‏}‏ أي فأرسلوه، فقال يوسف أيها الصديق، والفرق الجزء المفصل‏.‏ والطود‏:‏ الجبل العظيم المنطاد في السماء‏.‏ وحكى يعقوب عن بعض القراء، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء‏.‏

‏{‏وأزلفنا‏}‏‏:‏ أي قربنا، ‏{‏ثم‏}‏‏:‏ أي هناك، وثم ظرف مكان للبعد‏.‏ ‏{‏الآخرين‏}‏‏:‏ أي قوم فرعون، أي قربناهم، ولم يذكر من قربوا منه، فاحتمل أن يكون المعنى‏:‏ قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد، أو قربناهم من البحر‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو حيوة‏:‏ وزلفنا بغير ألف‏.‏ وقرأ أبي، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث‏:‏ وأزلقنا بالقاف عوض الفاء، أي أزللنا، قاله صاحب اللوامح‏.‏ قيل‏:‏ من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة، فالآخرون هم موسى وأصحابه، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة‏.‏ انتهى، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا‏.‏ قيل‏:‏ دخلوا البحر بالطول، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏‏:‏ أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏‏:‏ أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا‏.‏ وبنو إسرائيل، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء، قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة‏.‏ انتهى‏.‏ والذي يظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏‏:‏ أي أكثر قوم فرعون، وهم القبط، إذ قد آمن السحرة، وآمنت آسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وعجوز اسمها مريم، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 104‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم قصصه، وما جرى له مع قومه‏.‏ ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه، وإذ‏:‏ العامل فيه‏.‏ قال الحوفي‏:‏ أتل، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبأ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ العامل في إذ نبأ‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏وقومه‏}‏ عائد على إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ على أبيه، أي وقوم أبيه، كما قال‏:‏ ‏{‏إني أراك وقومك في ضلال مبين‏}‏ وما‏:‏ استفهام بمعنى التحقير والتقرير‏.‏ وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة‏.‏ ولما سألهم عن الذي يعبدونه، ولم يقتصروا على ذكره فقط، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين‏}‏‏:‏ على سبيل الابتهاج والافتخار، فأتوا بقصتهم معهم كاملة، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم‏:‏ أصناماً، كما جاء‏:‏ ‏{‏ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً‏}‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم‏:‏ ‏{‏فنظل‏}‏‏.‏ قال‏:‏ كما تقول لرئيس‏:‏ ما تلبس‏؟‏ فقال‏:‏ ألبس مطرف الخز فأجر ذيوله، يريد الجواب‏:‏ وحاله مع ملبوسه‏.‏ وقالوا‏:‏ فنظل، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل‏.‏ ولما أجابوا إبراهيم، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يسمعونكم‏}‏، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد، نحو‏:‏ سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غير مسموع، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو‏:‏ سمعت زيداً يقرأ‏.‏ والصحيح أنها تتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو‏.‏ وهنا لم تدخل إلا على واحد، ولكنه بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره‏:‏ هل يسمعونكم، تدعون‏؟‏ وقيل‏:‏ ‏{‏هل يسمعونكم‏}‏ بمعنى‏:‏ يجيبونكم‏.‏ وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر‏:‏ بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره‏:‏ الجواب، أو الكلام‏.‏ وإذ‏:‏ ظرف لما مضى، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير‏:‏ هل سمعوكم إذ دعوتم‏؟‏ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه‏}‏ أي وإذ قلت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا‏:‏ هل سمعوا، أو اسمعوا قط‏؟‏ وهذا أبلغ في التبكيت‏.‏

انتهى‏.‏ وقرئ‏:‏ بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به، إذ ددعون‏.‏ فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالاً، لا يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال، نحو‏:‏ إذدكر، وازدجر، وادهن، أصله‏:‏ اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا‏:‏ اجد مع في اجتمع، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت‏:‏ فزد، وفي جلدت‏:‏ جلدّ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا‏:‏ دولج، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه‏.‏ وقول ابن عطية‏:‏ والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها، فكنت تقول‏:‏ إذ تخرج‏:‏ ادّخرج، وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول‏:‏ اتخرج‏.‏

‏{‏أو ينفعونكم بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم‏.‏ أو يضرون‏}‏ بترك عبادتكم إياهم، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها‏؟‏ ‏{‏قالوا بل وجدنا‏}‏ هذه حيدة عن جواب الاستفهام، لأنهم لو قالوا‏:‏ يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه، ولو قالوا‏:‏ يسمعوننا ولا يضروننا، أسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة‏.‏ والكاف في موضع نصب بيفعلون، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة‏.‏ وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز‏.‏

‏{‏وآباؤكم الأقدمون‏}‏‏:‏ وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام، فزمان من بعده‏؟‏ وعدو‏:‏ يكون للمفرد والجمع، كما قال‏:‏ ‏{‏هم العدو فاحذرهم‏}‏ قيل‏:‏ شبه بالمصدر، كالقبول والولوع‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏عدو لي‏}‏، تصوراً للمسألة في نفسه على معنى‏:‏ أي فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً، وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا ويقولوا‏:‏ ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدنى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه‏.‏ ولو قال‏:‏ فإنه عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح‏.‏

ما لا يبلغ التصريح، لأنه ربما يتأمل فيه، فربما قاده التأميل إلى التقبل‏.‏ ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه، أن رجلاً واجهه بشيء فقال‏:‏ لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال‏:‏ ما هو بيتي ولا بيتكم‏.‏ انتهى‏.‏ وهو كلام فيه تكثير على عادته، وذهاب من ذهب إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏، من المقلوب والأصل‏:‏ فإني عدو لهم، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً‏}‏، فهذا معنى العداوة، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان، وهو الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف، أي‏:‏ فإن عبادهم عدو لي‏.‏ والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ تقديره‏:‏ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا‏:‏ بمعنى دون وسوى‏.‏ انتهى‏.‏ فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏‏.‏ وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله‏:‏ ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام‏.‏ وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في ‏{‏الذي خلقني‏}‏ النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني‏:‏ والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الذي خلقني‏}‏ رفعاً بالابتداء، ‏{‏فهو يهدين‏}‏‏:‏ ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط‏.‏ انتهى‏.‏ وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير‏:‏ الذي يأتيني فله درهم، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم‏.‏

وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل‏:‏ ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط‏.‏ فإن كان أراد ذلك، فليس بجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو‏:‏ زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته‏.‏ وقيل‏:‏ إلى جنته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فهو يهدين، يريد أنه حين أتم خلقه، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً‏؟‏ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة‏؟‏ وإلى معرفة مكانه‏؟‏ ومن هداه لكيفية الإرتضاع‏؟‏ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد‏.‏

انتهى‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏يطعمني ويسقين‏}‏‏:‏ الطعام المعروف المعهود، والسقي المعهود، وفيه تعديد نعمة الرزق‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ يطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها‏.‏ والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله‏:‏ ‏{‏فهو يهدين والذي هو يطعمني‏}‏، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق، وهو الغذاء والشرب‏.‏ ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته، بإزالة ما حدث من السقم، وأضاف المرض إلى نفسه، ولم يأت التركيب‏:‏ وإذا أمرضني، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه‏.‏ ولما لم يكن المرض منها، لم يضفه إلى الله‏.‏ وعن جعفر الصادق، ولعله لا يصح‏:‏ وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإنما قال‏:‏ مرضت دون أمرضني، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك‏.‏ ومن ثم قال الحكماء‏:‏ لو قيل لأكثر الموتى‏:‏ ما سبب آجالكم‏؟‏ لقالوا‏:‏ التخم، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال‏:‏ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ أكد بقوله‏:‏ ‏{‏فهو يشفين‏}‏‏:‏ أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره‏.‏

ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في‏:‏ ‏{‏والذي أطمع‏}‏‏.‏ وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع‏.‏ والطمع عبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم‏.‏ انتهى‏.‏ ورده الرازي قال‏:‏ لأن حاصله يرجع إلى أنه، ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعاً‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون‏.‏ ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المراد بالطمع اليقين‏.‏ وقال الرازي‏:‏ لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا‏:‏ إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خطيئتي‏}‏ على الإفراد، والحسن‏:‏ خطاياي على الجمع، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏ و‏{‏بل فعله كبيرهم‏}‏ وهي أختي في سارة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أظهر عندي، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا، وطمع أن يغفر له‏؟‏ قلت‏:‏ الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله‏:‏ اطمع، ولم يجزم القول‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏يوم الدين‏}‏‏:‏ ظرف، والعامل فيه يغفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى‏.‏ وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال‏:‏ لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية‏.‏ قال‏:‏ والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ‏.‏ فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار، قيل‏:‏ أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة‏.‏

وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏رب هب لي حكماً‏}‏، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات‏.‏ والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم‏:‏ الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة، إما عين الحاصلة أو غيرها‏.‏ والأول محال، لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة، قال‏:‏ ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام‏.‏ وإلحاقه بالصالحين‏:‏ توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة‏.‏ وقد أجابه تعالى حيث قال‏:‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وإنما قدّم قوله‏:‏ ‏{‏هب لي حكماً‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية، لأنه يمكنه أن يعلم الحق، وإن لم يعمل به، وعكسه غير ممكن، لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن، كذلك العلم أفضل من الإصلاح‏.‏

انتهى‏.‏ ولسان الصدق، قال ابن عطية‏:‏ هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين‏.‏ وكذلك أجاب الله دعوته، فكل ملة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال مكي‏:‏ وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام، وهذا معنى حسن، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ‏.‏ انتهى‏.‏ ولما طلب سعادة الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً‏}‏ ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه، طلب لأشد الناس التصاقاً به، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه، وهو أبوه، فقال‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي‏}‏، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط، فحاصله أنه دعا بالإسلام‏.‏ وكان وعده ذلك يوضحه قوله‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله‏}‏ أي الموافاة على الكفر تبرأ منه‏.‏ وقيل‏:‏ كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً، تقية وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي إنه كان من الصالحين‏}‏‏.‏ فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك‏.‏ ‏{‏ولا تخزني‏}‏‏:‏ إما من الخزي، وهو الهوان، وإما من الخزاية، وهي الحياء‏.‏ والضمير في ‏{‏يبعثون‏}‏ ضمير العباد، لأنه معلوم، أو ضمير ‏{‏الضالين‏}‏، ويكون من جملة الاستغفار، لأنه يكون المعنى‏:‏ يوم يبعث الضالون‏.‏ وأتى فيهم‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع‏}‏ بدل من‏:‏ ‏{‏يوم يبعثون‏}‏‏.‏ ‏{‏مال ولا بنون‏}‏‏:‏ أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبنين جميع الأعوان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا‏.‏ والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى‏.‏ انتهى‏.‏

ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن ‏{‏من أتى الله بقلب سليم‏}‏ ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلاً بتأويل قال‏:‏ إلا من أتى الله‏:‏ لا حال من أتى الله بقلب سليم، وهو من قوله‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال‏:‏ هل لزيد مال وبنون‏؟‏ فيقول‏:‏ ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك‏.‏ وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل‏:‏ يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه‏.‏ انتهى‏.‏ وجعله بعضهم استثناء مفرغاً، فمن مفعول، والتقدير‏:‏ لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر، وبنوه الصلحاء، إذ كان أنفقه في طاعة الله، وأرشد بنيه إلى الدين، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب، خلوصه من الشرك والمعاصي، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين‏.‏ وقال سفيان‏:‏ هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره، وهذا يقتضي عمومه اللفظ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ بقلب لديغ من خشية الله، والسليم‏:‏ اللديغ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو من بدع التفاسير وصدق‏.‏

‏{‏وأزلفت الجنة‏}‏‏:‏ قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها‏.‏ ‏{‏وبرزت الحجيم‏}‏‏:‏ أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله‏:‏ ‏{‏فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله‏}‏ وذلك على سبيل التوبيخ‏.‏ هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذ هم وأنتم وقود النار‏؟‏ وقرأ الأعمش‏:‏ فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لولا أن رسم المصحف بالواو‏.‏ وقرأ مالك بن دينار‏:‏ ‏{‏وبرزت‏}‏ بالفتح والتخفيف؛ ‏{‏الجحيم‏}‏ بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعاً‏.‏ ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عن حال يوم القيامة، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فكبكبوا‏}‏، لتحقق وقوع ذلك، وإن كان لم يقع‏.‏ والضمير في‏:‏ فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل‏.‏ قال الكرماني‏:‏ فكبكبوا‏:‏ قذفوا فيها‏.‏ وقيل‏:‏ جمعوا‏.‏ وقيل‏:‏ هدروا‏.‏ وقيل‏:‏ نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض‏.‏ وقيل‏:‏ ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها‏.‏ ‏{‏والغاوون‏}‏‏:‏ هم الكفرة الذين شملتهم الغواية‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير يعود على الكفار، والغاوون‏:‏ الشياطين‏.‏ ‏{‏وجنود إبليس‏}‏‏:‏ قبيلة، وكل من تبعه فهو جند له وعون‏.‏ وقال السدّي‏:‏ هم مشركو العرب، والغاوون‏:‏ سائر المشركين‏.‏

وقيل‏:‏ هم القادة والسفلة، قالوا‏:‏ أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في ‏{‏نسويكم‏}‏ للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن إن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين‏.‏ ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة‏.‏

‏{‏وما أضلنا إلا المجرمون‏}‏‏:‏ أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم‏:‏ ‏{‏أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏ وقال السدي‏:‏ هم الأولون الذين اقتدوا بهم‏.‏ وقيل‏:‏ المجرمون‏:‏ الشياطين، وقيل‏:‏ من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي‏.‏ وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة، قالوا على جهة التلهف والتأسف، ‏{‏فما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏}‏‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ شافعين من الملائكة وصديق من الناس‏.‏ ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء‏.‏ والصديق يحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك، وهم موجودون للمؤمنين، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون، كما قال‏:‏ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع، حكمه حكم المعدوم، فصار المعنى‏:‏ فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة‏.‏ ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه، وأفرد الصديق لقلته، وأريد به الجمع‏؟‏ إذ يقال‏:‏ هم صديق، أي أصدقاء، كما يقال‏:‏ هم عدو، أي أعداء‏.‏ والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني، وفنكون الجواب، كأنه قيل‏:‏ يا ليت لنا كرة فنكون‏.‏ وقيل‏:‏ هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فنكون‏}‏ معطوفاً على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لو محذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب‏.‏ والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وهذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون‏}‏ هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام، وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه‏.‏

انتهى‏.‏ وكان ابن عطية قد أعرب ‏{‏يوم لا ينفع‏}‏ بدلاً من ‏{‏يوم يبعثون‏}‏، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول، أو الأول‏.‏ وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير‏:‏ ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون‏.‏ والإشارة بقوله ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه‏.‏ ‏{‏وما كان أكثرهم‏}‏‏:‏ أي أكثر قوم إبراهيم‏.‏ بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 122‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏‏}‏

المشحون‏:‏ المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل، يقال‏:‏ شحنها عليهم خيلاً ورجالاً، الريع‏:‏ بكسر الراء وفتحها‏:‏ جمع ريعة، وهو المكان المرتفع‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

طراق الخوافي مشرق فوق ريعه *** بذي ليلة في ريشه يترقرق

وقال أبو عبيدة‏:‏ الريع‏:‏ الطريق‏.‏ قال ابن المسيب بن علس يصف ظعناً‏:‏

في الآل يخفضها ويرفعها *** ريع يلوح كأنه سحل

الطلع‏:‏ الكفري، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الطلعة‏:‏ هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه‏.‏ شماريخ القنو، والقنو‏:‏ اسم للخارج من الجذع، كما هو بعرجونه‏.‏ الفراهة‏:‏ جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه‏.‏ وقيل‏:‏ الكيس والنشاط‏.‏ القالي‏:‏ المبغض، قلى يقلي ويقلى، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ‏.‏ الجبلة‏:‏ الخلق المتجسد الغليظ، مأخوذ من الجبل‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والموت أعظم حادث *** مما يمر على الجبله

ويقال‏:‏ بسكون الباء مثلث الجيم‏.‏ وقال الهروي‏:‏ الجبل والجبل والجبل، لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس‏.‏ انتهى‏.‏ هام‏:‏ ذهب على وجهه، قاله الكسائي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ حاد عن القصد‏.‏

‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، فاتقوا الله وأطيعون، قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، قال وما علمي بما كانوا يعملون، إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين، إن أنا إلا نذير مبين، قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين، قال رب إن قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعد الباقين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

القوم‏:‏ مؤنث مجازي التأنيث، ويصغر قويمة، فلذلك جاء‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح‏}‏‏.‏ ولما كان مدلوله أفراداً ذكوراً عقلاء، عاد الضمير عليه، كما يعود على جمع المذكر العاقل‏.‏ وقيل‏:‏ قوم مذكر، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين، وإن كان المرسل إليهم واحداً في الفرقان في قوله‏:‏ ‏{‏وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏}‏ وإخوة نوح قيل‏:‏ في النسب‏.‏ وقيل‏:‏ في المجانسة، كقوله‏:‏

يا أخا تميم تريد يا واحد أمته *** وقال الشاعر‏:‏

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

ومتعلق التقوى محذوف، فقيل‏:‏ ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم‏؟‏ وقيل‏:‏ ألا تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته، كونه مشهوراً في قومه بذلك، أو مؤتمناً على أداء رسالة الله‏؟‏ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏، انتقل من العرض إلى الأمر فقال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ في نصحي لكم، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة‏.‏

‏{‏وما أسئلكم عليه‏}‏‏:‏ أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في عليه يعود على النصح، أو على التبليغ، والمعنى‏:‏ لا أسئلكم عليه شيئاً من أموالكم‏.‏ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام‏.‏ ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم، وإن اختلف التعليل، جعل الأول معلولاً لأمانته، والثاني لانتفاء أخذ الأجر‏.‏ ثم لم ينظروا في أمر رسالته، ولا تفكروا فيما أمرهم به، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة، وهي التي تطبع على قلوبهم‏.‏ فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له، كونه اتبعه الأرذلون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏، جملة حالية، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا، فنتساوى معهم في اتباعك‏؟‏ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب‏.‏ والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء، لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ واتبعك فعلاً ماضياً‏.‏ وقرأ عبد الله، وابن عباس، والأعمش، وأبو حيوة، والضحاك، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري، وطلحة، ويعقوب‏:‏ واتباعك جمع تابع، كصاحب وأصحاب‏.‏ وقيل‏:‏ جمع تبيع، كشريف وأشراف‏.‏ وقيل‏:‏ جمع تبع، كبرم وإبرام، والواو في هذه القراءة للحال‏.‏ وقيل‏:‏ للعطف على الضمير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أنؤمن لك‏}‏، وحسن ذلك للفصل بلك، قاله أبو الفضل الرازي وابن عطية وأبو البقاء‏.‏ وعن اليماني‏:‏ واتباعك بالجر عطفاً على الضمير في لك، وهو قليل، وقاسه الكوفيون‏.‏ والأرذلون‏:‏ رفع بإضمارهم‏.‏ قيل‏:‏ والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين هم أراذلنا‏}‏ وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل، كما ورد في حديث هرقل‏.‏ وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى، ولا شرف المكاسب ودناءتها‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح‏:‏ ‏{‏وما علمي‏}‏ الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزئ به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، الحديث بجملته انتهى‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ لا أطلب العلم بما عملوه، إنما على أن أدعوهم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وما علمي، وأي شيء علمي، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏الذين هم أراذلنا‏}‏ بادئ الرأي‏.‏ ويجوز أن يتعالى لهم نوح عليه السلام، فيفسر قولهم‏:‏ الأرذلون، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم‏.‏ ثم بنى جوابه على ذلك فيقول‏:‏ ما عليّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم شيء، فالله محاسبهم ومجازيهم، وما أنا إلا منذر لا محاسب، ولا مجاز، لو تشعرون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم‏.‏ وقصد بذلك رد اعتقادكم، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً‏.‏ فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى‏.‏ انتهى‏.‏ وهو تكثير‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ وما علمي ما نافيه، والباء متعلقة بعلمي‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث، أردفه بقوله‏:‏ ‏{‏لو تشعرون‏}‏، أي بأن المعاد حق، والحساب حق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تشعرون بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ الأعرج، وأبو زرعة، وعيسى بن عمر الهمداني‏:‏ بياء الغيبة‏.‏

‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين‏}‏‏:‏ هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء، فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ الآية، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم‏.‏ ‏{‏إن أنا إلا نذير مبين‏}‏، ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل‏.‏ ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه، أخذوا في التهديد والوعيد‏.‏

‏{‏قالوا لئن لم تنته يا نوح‏}‏ عن تقبيح ما نحن عليه، وادعائك الرسالة من الله، ‏{‏لتكونن من المرجومين‏}‏، أي بالحجارة، وقيل‏:‏ بالشتم‏.‏ وأيس إذ ذاك من فلاحهم، فنادى ربه وهو أعلم بحاله‏:‏ ‏{‏إن قومي كذبون‏}‏، فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني، ولكن لأجل دينك‏.‏ ‏{‏فافتح‏}‏، أي فاحكم‏.‏ ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه، أي‏:‏ ‏{‏ونجني‏}‏ مما يحل بهم‏.‏ وقيل‏:‏ ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة‏.‏ والفلك واحد وجمع، وغالب استعماله جمعاً لقوله‏:‏ ‏{‏وترى الفلك مواخر فيه‏}‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر‏}‏ فحيث أتى في غير فاصلة، استعمل جمعاً، وحيث كان فاصلة، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل، كهذا الموضع‏.‏ والذي في سورة يس، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً، أهو جمع تكسير، أم اسم جمع‏؟‏ والمشحون، قال ابن عباس‏:‏ الموقر، وقال عطاء‏:‏ المثقل‏.‏ ‏{‏ثم أغرقنا بعد‏}‏‏:‏ أي بعد نجاة نوح والمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 140‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏‏}‏

كان أخاهم من النسب، وكان تاجراً جميلاً، أشبه الخلق بآدم عليه السلام، عاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة، وبينه وبين ثمود مائة سنة‏.‏ وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت‏.‏ أمرع البلاد، فجعلها الله مفاوز ورمالاً‏.‏ أمرهم أولاً أمر به نوح قومه، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع‏}‏‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ هو رأس الزقاق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فج بين جبلين‏.‏ وقال عطاء‏:‏ عيون فيها الماء‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ جبل‏.‏ وقيل‏:‏ الثنية الصغيرة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ريع بكسر الراء، وابن أبي عبلة‏:‏ بفتحها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏آية‏}‏‏:‏ علماً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أبراج الحمام‏.‏ وقال النقاش وغيره‏:‏ القصور الطوال‏.‏ وقيل‏:‏ بيت عشار‏.‏ وقيل‏:‏ نادياً للتصلف‏.‏ وقيل‏:‏ أعلاماً طوالاً ليهتدوا بها في أسفارهم، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم‏.‏ وقيل‏:‏ علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق‏.‏ وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث، كما يفعل المترفون في الدنيا‏.‏ والمصانع‏:‏ جمع مصنعة‏.‏ قيل‏:‏ وهي البناء على الماء‏.‏ وقيل‏:‏ القصور المشيدة المحكمة‏.‏ وقيل‏:‏ الحصون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ برك الماء‏.‏ وقيل‏:‏ بروج الحمام‏.‏ وقيل‏:‏ المنازل‏.‏ واتخذ هنا بمعنى عمل، أي ويعملون مصانع، أي تبنون‏.‏ وقال لبيد‏:‏

وتبقى جبال بعدنا ومصانع *** ‏{‏لعلكم تخلدون‏}‏‏:‏ الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود‏.‏ وفي قراءة عبد الله‏:‏ كي تخلدون، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد، فلذلك بنيتم واتخذتم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم، أي هل أنتم تخلدون‏:‏ وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المعنى كأنكم خالدون، وفي حرف أبي‏:‏ كأنكم تخلدون‏.‏ وقرئ‏:‏ كأنكم خالدون‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تخلدون، مبنياً للفاعل؛ وقتادة‏:‏ مبنياً للمفعول‏.‏ ويقال‏:‏ خلد الشيء وأخلده‏:‏ غيره‏.‏ وقرأ أبيّ، وعلقمة، وأبو العالية، مبنياً للمفعول مشدداً، كما قال الشاعر‏:‏

وهل ينعمن إلا سعيد مخلد *** قليل الهموم ما يبيت بأوجال

‏{‏وإذا بطشتم‏}‏‏:‏ أي أردتم البطش، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه، كقوله‏:‏

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة *** أي متى أردتم بعثها‏.‏ قال الحسن‏:‏ بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنكم كفار الغضب، لكم السطوات المفرطة والبوادر‏.‏ فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء، والجبارية تدل على التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد‏.‏ ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية، وحب الدنيا رأس كل خطيئة‏.‏ ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة، أمرهم ثانياً بتقوى الله وطاعة نبيه‏.‏

ثم أمرهم ثالثاً بالتقوى تنبيهاً لهم على إحسانه تعالى إليهم، وسبوغ نعمته عليهم‏.‏ وأبرز صلة ‏{‏الذي‏}‏ متعلقة بعلمهم، تنبيهاً لهم وتحريضاً على الطاعة والتقوى، إذ شكر المحسن واجب، وطاعته متعينة، ومشيراً إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه، وعلى تعذيب من لم يتقه، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئاً بعد شيء‏.‏ ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملاً محالاً على علمهم، أتى به مفصلاً‏.‏ فبدأ بالأنعام، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا، والقوة على من عاداهم، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالباً لوجده‏.‏ وبحصول القوة أيضاً بالبنين، فلذلك قرنهم بالأنعام، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها‏.‏ واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة‏.‏

‏{‏وبأنعام‏}‏‏:‏ ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله‏:‏ ‏{‏بما تعلمون‏}‏، وأعيد العامل كقوله‏:‏ ‏{‏اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم‏}‏ والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلاً وإنما هو عندهم من تكرار الجمل، وإن كان المعنى واحداً، ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به، نحو‏:‏ مررت بزيد بأخيك، ثم حذرهم عذاب الله، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم، إذ كان راجياً لإيمانهم، فكان من جوابهم أن قالوا‏:‏ ‏{‏سواء علينا‏}‏ وعظك وعدمه، وجعلوا قوله وعظاً، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذب فيما ادعاه، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وعظت، بإظهار الظاء‏.‏ وروي عن أبي عمرو، والكسائي، وعاصم‏:‏ إدغام الظاء في التاء‏.‏ وبالإدغام، قرأ ابن محيصن، والأعمش؛ إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ‏:‏ أوعظتنا‏.‏ وينبغي أن يكون إخفاء، لأن الظاء مجهورة مطبقة، والتاء مهموسة منفتحة، فالظاء أقوى من التاء، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين، أو في المتقاربين، إذا كان الأول أنقص من الثاني‏.‏ وأما إدغام الأقوى في الأضعف، فلا يحسن‏.‏ على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات، فوجب قبولها، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس‏.‏

وعادل ‏{‏أوعظت‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أم لم تكن من الواعظين‏}‏، وإن كان قد يعادله‏:‏ أم لم تعظ‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا‏}‏ لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله‏:‏ ‏{‏سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون‏}‏ ولم يأت التركيب أم صمتم، وكثيراً ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بينهما فرق، يعني بين ما جاء في الآية وهي‏:‏ أم لم تعظ، قال‏:‏ لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظ من قولك‏:‏ أم لم تعظ‏.‏ ولما لم يبالوا بما أمرهم به، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم، أجابوه بأن قالوا‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏‏.‏

وقرأ عبد الله، وعلقمة، والحسن، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي‏:‏ خلق، بفتح الخاء وسكون اللام، فهو يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك، فأنت على مناهجهم‏.‏ وروى علقمة عن عبد الله‏:‏ أن هذا إلا اختلاق الأولين‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ما هي البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ خلق، بضمتين؛ وأبو قلابة، والأصمعي عن نافع‏:‏ بضم الخاء وسكون اللام؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في خلق‏.‏